اذا انطلقنا من تصور بديهي، دائما ما كان يراودنا منذ الصغر; لماذا لا تقوم الدولة بطباعة كميات كبيرة من النقود ؟ و هكذا يمكنها القضاء على الفقر، و تجاوز المشاكل المتعلقة بالهشاشة الإجتماعية ..
حتما هو من التصورات و الأفكار التي لم يسلم أي شخص من التفكير فيها، لكن ما ان يتم فهم النظام الاقتصادي و لو بصورة سطحية، يتلاشى هذا التفكير و تظهر سداجتنا جلية . حتما سأكون سادجا لو احتفظت بهذا التصور و أنا في هذا العمر، لهذا دعونا نستعرض الموضوع بطريقة تحليلية، و من خلال شرح مبسَّط لدينامية النقود داخل اقتصاد الدول .
لنأخد فكرتنا على محمل الجد، و لنعتبرها صحيحة ، اذن ستقوم الدولة بـ"طباعة" كميات كبيرة من النقود و هكذا سيحصل كل منَّا على كمية مهمة منها، و بالتالي سنتمكن من شراء كل ما نريد، و مباشرة سيعرف الطلب على السلع و الخدمات ارتفاعا مهولا، يتجاوز العرض الكلي ، كما سيعرف الاقتصاد حالة خلل في التوازنات و هذا ما سيدفع بالمنتجين الى رفع الأسعار كردة فعل تلقائية من أجل اعادة احلال التوازن بين العرض و الطلب المتزايد ، و بسبب هذه الزيادة في الأسعار، سيعيش الاقتصاد حالة تضخم، ستؤثر على قيمة العملة التي ستنزل الى أدنى مستوياتها، و كنتيجة لتدني قيمة النقود، ستُفقد الثقة تدريجيا في العملة المحلية للدولة، و بفقدانها سنكون أمام نهاية حتمية لهذه العملة، فالثقة هي أساس النظام النقدي الحالي ، كما أن تقييمنا للنقود لا ينم عن قيمتها في ذاتها بل لكونها وثيقة موثوق بها في أي مكان و زمان ، و بواسطتها يمكننا الحصول على أي سلعة أو خدمة نريد .
عديد من الدول عانت من اشكالية التضخم و تدني قيمة عملتها ، و خير مثال هو دولة زيمبابوي، التي شهدت نسبة تضخم و صلت في سنة 2008 الى 231 مليار بالمئة ، أجل انه رقم كبير للغاية، سُجل في موسوعة غينيس للأرقام القياسية، و حتى انه بـ 5 دولار أمريكي يمكننا الحصول على 175 مليون مليار دولار زيمبابوي . في مثل هذه الحالة سيظطر المواطن لترك هذه العملة و استعمال أُخرى أكثر استقرارا منها ، و هذا ما حدث في البرازيل في سنوات الثمانينات، حيث عانت البلاد من نِسب تضخم كبيرة، نتيجة تدني قيمة العملة المحلية ، و هذا ما جعل المواطنين يتوجهون نحو استعمال الدولار الأمريكي في ظاهرة سميَّت بـ"الدولرة Dolarisation" ، في هذه الحالة اجتمع التضخم و نهاية حياة العملة و انضافت لهم الدولرة ، التي أفقدت الدولة احتكارها لإنتاج النقود . طبعا لم تقف الحكومة البرازيلية مكتوفة الأيدي، بل قامت في سنة 1994، بطَبع عُملة جديدة سُميَّت "الريال" ، أعادت من خلالها الثقة التي فقدتها سابقا نتيجة التضخم .
قد يتساءل البعض منا، عن ماهية الشروط التي تحدد لنا كمية النقود، التي يجب حقنها داخل الاقتصاد ..
قبل قيامنا بذلك يجب أولاً تحديد معدلات النمو الإقتصادي، و أعني هنا الناتج الداخلي الخام للدولة، فمن خلاله نحدد كمية السلع و الخدمات التي تُنتج داخل اقتصادها، و هذا ما يعطينا صورة واضحة عن وضعيتنا الإقتصادية، هل نحن في نمو و ازدهار ؟ أم أننا في حالة ركود و بطالة ؟ اذن فكمية النقود أو السيولة، تتحدد حسب معدلات النمو، و الوضعية الإقتصادية .
لكن من يقوم بهذه المهمة و كيف ؟
يكمن الجواب في انشاء بنك مركزي مستقل بذاته ، جلُّ اهتمامه مراقبة الإقتصاد، و تحديد كمية النقود داخله ، و يتم هذا التحكم عبر سعر فائدة يقوم البنك المركزي بتحديده، و هذا الأخير يتحكم في معدلات الفائدة لدى الأبناك التجارية ، و الذي بموجبه تُقدَّم قروض للفاعلين الاقتصاديين . فإن تبيَّن بأن كمية النقود كبيرة داخل الاقتصاد ، و خوفا من الوقوع في حالة تضخم ، يرفع البنك المركزي من سعر الفائدة من أجل تقليص النقود داخل الإقتصاد، و ذلك من خلال تشجيع الفاعلين الإقتصاديين على الإدخار .
و ان تبين العكس (كمية النقود محدودة داخل الاقتصاد) ، يقوم البنك المركزي بتقليص سعر الفائدة، من أجل تشجيع الفاعلين، على الطلب الفعلي سواء الطلب على السلع - و بالتالي خفض الإدخار- أو الطلب على الإستثمار .
اذن فنحن نتحدث عن نظام دقيق ، يسير و كل الأعين عليه تراقبه ليل نهار، من أجل تجنب الغرق في معضلة كالتضخم في حالة سيولة أكبر من المعدل، أو الوقوع في مشكلة كالركود في حالة نقصانها (السيولة) ، حتى أنه بسبب الدور الذي تلعبه النقود في ظبط التوازنات الاقتصادية، ظهرت مدارس فكرية اقتصادية، اعتبرت أن النقود أساس الاستقرار و منبع الأزمات داخل النظام الإقتصادي كما هو الحال مع المدرسة النقدية Monetarism التي تزعمها ميلتون فريدمان .